الصفحة الرئيسية  أخبار وطنية

أخبار وطنية الأستاذ الجامعي شيحة قحة ينشر تفصيل معاناته مع مرض السرطان

نشر في  14 جويلية 2016  (14:12)

 نشر الخبير الاقتصادي والأستاذ الجامعي شيحة قحة على صفحته الرسمية تفاصيل رحلة معاناته الواقعية مع مرض السرطان والتي لخّصها في 6 لوحات  كالتالي:

"شيحة قحّة

اللوحة الأولى

ها أنا وزوجتي في الطائرة نعود إلى تونس. الرحلة من مونريال الكنديّة إلى تونس العاصمة طويلة، شاقّة. يتعبني السفر الطويل. أصبحت ألقى في السفر الى كندا وغيرها من الأقطار عسرا وضيقا. أنا أكره السفر ولكن حتّى أرى ابني خديجة ومحمّد وهما في كندا مستقرّان، منذ سنين، يجب عليّ أن أسافر وأقطع المسافات. كانت الطائرة تعجّ بشرا جاؤوا من كلّ الأصقاع. كلّ في مكانه ينتظر متى تحلّ الطائرة. تدوم الرحلة سبع ساعات. سبع ساعات في نفس المكان. فوق كرسيّ ضيّق. السفر في البقاع الاقتصاديّة مصيبة. ما كنت سافرت يوما في غير البقاع الاقتصاديّة. لعن الله الفقر. أنا ولا شكّ مازلت فقيرا. إلى يوم الناس هذا لا أقدر على السفر في البقاع الأولى تلك التي جاءت في الأمام وفيها رفاه. سبع ساعات فوق كرسيّ مكلّس للجسم، خانق للأنفس. سبع ساعات من التقلّب، من العذاب. كنت في ضيق، في عسر ولا خيار لي غير الصبر. في القسم الاقتصادي، على طائرة الخطوط الفرنسيّة، كنّا كالدواب متراصّين، متلاصقين حتّى تتمكّن الشركة من تحقيق الجدوى، من الزيادة في الأرباح. ما كانت تذكرة البقاع الاقتصاديّة بخسة الثمن ولكن سعر البقاع الأخرى كان باهظا، مشطّا أو هكذا كنت أرى. كنت أنظر في الوجوه الجالسة من حواليّ وقد جاءت الوجوه شاحبة، منهكة، تشكو العسر والارهاق...
أنا طويل القامة. أعرف ذلك. لي جسم مكتمل وأحمل لحما فيه بعض زيادة. أعلم ذلك، أيضا. أنا لست بدينا ولكن كراسي القسم الاقتصادي لا يهمّها من كان نحيفا أو به بعض بدانة. طوال السفر، كانت ركبتاي قبالة وجهي وألقى عسرا في مدّ يديّ وتحريك رجليّ. قلت في نفسي "هذه آخر مرّة أسافر إلى كندا، في القسم الاقتصاديّ". من حين لآخر أمشي في الممرّات، أتحرّك قليلا. أرفّه عن الجسم حتّى لا ينكمش وإن لبضع دقائق. طريقتي في التفريج عن النفس هي زيارة المراحيض. عديد المرّات. حينها أخطو بعض الخطوات فأريح الأعضاء ممّا أصابها من انكماش والنفس ممّا أنهكها من عياء.
في مرّة من المرّات، داخل المرحاض، نظرت فلقيت أنّي أتبوّل دما. لم أصدّق ما رأيت وقلت لعلّه الظلام وفي الظلام يستوي الأصفر والأحمر من الألوان. عدت مجدّدا الى المرحاض لأتثبّت، لأنظر في البول وان كان أصفرا أم أحمر. ها أنا أتثبّت. هو الدم يجري. لا شكّ ولا ريبة في ما أرى. لماذا أنا أتبوّل الدم؟ لم أبل يوما بولا كهذا. ما الذي اصابني حتّى أتبوّل دما أحمر؟ لعلّه الكرسيّ المتعوس وضيقه البائس. لعل ما كنّا أكلنا من طعام وما شربنا من شراب. لم افهم شيئا. قلت لزوجتي ما كان لي في المرحاض من بول دمويّ.

اللوحة الثانيّة

ما هذا البول الأحمر؟ هل هو مؤشّر لمرض دفين أم هو ظاهرة عرضيّة، جاءت نتيجة عذاب السفر؟ لا أدري. أنا لا أفهم في الطبّ شيئا. كنت في بعض حيرة... هذه مشكلة أخرى تنضاف لما في رأسي من مشاكل. كنت أنتظر نهاية الرحلة ومتى الوصول إلى الدار. أحسب الدقائق تمضي بطيئة وها أنا الآن أواجه مسألة أخرى محيّرة. في رأسي اضطراب. يسكنني سؤال ملحّ. ما هو مصدر الدم؟ لم أتبوّل يوما من قبل دما. ما من شكّ هو السفر الطويل أو ربّما ما كنت التهمت من شراب... دعك من هذا يا رجل واضحك للدنيا ولا تقنط. قريبا سوف تصل الى تونس وتنتهي من عذاب الطائرة. كن متفائلا وتذكّر من العيش أحلاه. ألم تكن في مونريال حيث قضّيت أكثر من أسبوعين في نعيم ومرح؟ ألم تسرّ بما كنت عشت مع ابنيك وزوجيهما من أيّام؟ دع عنك كلّ هذا ولسوف ينتهي السفر ولسوف يزول الدم. بعد بضع ساعات وتعود المياه الى مجراها. قد تطرأ مثل هذه الأشياء. ثم هل أنت تشتكي من وجع، من ألم؟ لا. اذا امش يا رأسي وانظر في بحر المحيط وفي الشمس في الأفق تنبعث. انس كلّ هذا الآن...
صحيح، عشت في الكيباك أيّاما بهيّة والتقيت في مدينة مونريال بأخلّة عرفتهم من قبل فعادت بيّ الذكرى يوم كنت أدرس في الكيباك. كانت تلك السنين جميلة رغم ما فيها من عسر وبعد عن الأهل والوطن. أيّامها، تعوّدت العيش وأصبحت محبّا للحياة في الكيباك. أنا أحب العيش في كندا. بل لعلّ شغفي بكندا قد ازداد منذ عرفنا ثورة وما كان مع الثورة من فوضى ومن خراب. أنا أكره الفوضى ولا أقدر على العيش حيث الهيج والعنف والخروقات. أنا أحبّ العيش المطمئنّ حيث يلقى كلّ مكانه دون مجون أو تجاوز. أنا أودّ العيش شتاء وصيفا في كندا حيث يحيا ولداي وحيث العيش هنيئا، مستقيما. أحيانا، تخامرني فكرة. أن أبيع كلّ ما أملك في تونس وأرحل إإلى هناك وأحيا ما تبقّى من الأيّام. ما المانع في ذلك؟ أنا لست ممّن يعتقد أن مسقط الرأس واحد لا يتغيّر وأنّ الحيّ لا بدّ له أن يعود يوما الى موطنه. أنا أومن أن أرض الله جعلت لخلق الله جميعا وأن حيث تلقى حرّيتك ورفاهك فاذهب وعش هناك. الأرض جميعا أرض الناس جميعا وان اختلفوا... ثمّ، تونس تتصحّر. صيفها مفزع وشتاؤها بلا مطر. مثل هذه الأحوال مفسدة للحياة ولسوف تصبح الحياة فيها أمرا عصيّا... 
ما هو يا ترى ذاك البول الدمويّ؟ ما سببه وما أصله؟ لا أدري. أنا محتار. ها أنا أعود إلى نقطة البداية. فكري منشغل. دعك الآن من هذا وانظر في الدنيا وكيف هي زاهيّة، بهيّة فلا تيأس واذكر نعمة ربّك وتذكّر دائما أنّ الله بعباده رحيم، كريم. تذكّر ما رأيت في مونريال من حدائق غنّاء وخضرة ممتدّة وأنهار وبحيرات ووديان تجري. تذكّر كيف سوّت الأرض والسماء وكيف جاءت كلّها جمال وبهاء. خلال الزيارة، كان الطقس لطيفا، رحيما. كانت الشمس مشرقة يوما وكان المطر النافع في الغد يسقي الشجر والزرع والحقول. تذكّر تلك الغابة البهيّة حيث مشيت وكلّ أفراد العائلة، في جبل عليّ تحت أشجار عاتيّة. كانت السواقي تجري من كلّ فجّ وهذه بحيرات وشلالات.

اللوحة الثالثة

ها أنا وزوجتي في قاعة الانتظار. من حولنا مرضى. أنا آخر من سوف يرى الطبيب. يجب أن أنتظر كلّ هؤلاء. أنظر في وجوه المرضى فألقاها تعبة، شاحبة، تتوجّع. أنا أيضا تعب. كنت في ريبة، في ارتباك. سوف ألتقي مع الطبيب حتّى أعلم ما جاءت به التحاليل من نبإ. ليس من اليسير أن تعلم ما يحمله البول الدموي. منذ أسبوع وأنا بين طبيب وطبيب، بين تحليل وتصوير. الكلّ منكبّ، ينظر في سبب البول الدمويّ. كم تطوّر الطبّ وكم هو اليوم متشعّب، متفرّع. كثرت الاختصاصات وتعدّدت زوايا الفحص والمناهج. أصبح الطبّ صناعة ثقيلة. وبقدر تطوّر الطبّ وأدواته تطوّر المرض واتسعت رقعته ومشى في كلّ صوب ومنحى. أنا لا أعرف هذا العالم المتطوّر. ما كان لي عهد بالطبّ، بأهله، بأدواته. عشت دوما في صحّة وعافيّة. أحيانا، أمشي من أجل مراقبة داء السكّري وقد سكنني منذ زمن. انتهى ذاك الزمن البهيّ. في ليلة وعشيّة، ها أنا في دوّامة مفزعة. منذ أسبوع وأنا أدور بين مختلف الاختصاصات. في كلّ يوم، لي أمر جديد. في كلّ يوم، أعرض على الفحص، آتي تحاليل اضافيّة، ألتقي بطبيب، أصوّر ما في الأحشاء من أعضاء. ما كنت أحسب أن ذاك البول سوف يكلّفني كلّ هذا العناء، كلّ هذا الفزع.
ما كنت قلقا بما سوف يعلمني به الطبيب. أنا لا أشتكي شيئا. انا آكل وأنام وأمشي في الأرض مرحا، منذ أوّل الزمن. لم الخوف؟ هل أشتكي وجعا؟ كلّ شيء فيّ عاديّ. من عادة الأطبّاء أن ينظروا في كلّ الزوايا. أمّا اذا انفرد الأطبّاء بواحد فتراهم يدوّرونه على كلّ الاختصاصات، يبحثون في كلّ الأعضاء، يفتّشون في كلّ الزوايا...
ضاق بيّ الكرسيّ الذي فوقه أجلس. طال الانتظار. ها أنا أمشي وأجيء في البهو. ماذا سوف يقول لي الطبيب؟ عرفت الطبيب هذا وكانت لي معه منذ يومين أو ثلاثة عمليّة جراحيّة للاستطلاع. قال الطبيب يجب التثبّت في ما جاء في الورم. هو الآخر لا يدري ان كان الورم خبيثا أم عاديّا. يقول الطبيب ان رآه سوف يعلم خبره. لم التحليل اذا والنظر يكفي لمعرفة ما في الورم من ماهيّة؟ هل يخفي الطبيب سرّا أم هو يريد التأكّد قبل التكلّم؟ حسب الطبيب، ذاك الدم أفرزه ورم في الأحشاء، في كيس البول. قبل تحديد العلاج يجب التثبّت في خصوصيّة الورم... لحظات عصيبة، مريرة. بعد قليل سوف يخبرني الطبيب عنّ سرّ الورم. لحظات وأعلم ما سوف يكون وإن سوف أبقى على قيد الحياة أو أدخل نفق الأدويّة والهبوط إلى الظلمات.
كم هو قاتل مرض السرطان. تذكّرت من صحبي من مات به. تذكّرت مختار وما كان عاناه لعدّة سنوات. تذكّرت عبد الرحمان وما كان له من عذاب. تذكّرت المهدي وكيف خطفه المرض بين عشيّة وضحاها. تذكّرت برنيّة وكيف هي الأخرى رغم حبّها للحياة، في بضعة أشهر، غادرت الحياة. تذكّرت أمّي ورايتها في السماء تنحب حظّي المنكود. تذكّرت العديد من صحبي. كلّ يظهر، أراه ثم يختفي وراء السحب. هل بدأ العدّ التنازلي؟ هل عليّ أن أستعدّ لأغادر؟ أرى الدنيا بساطا يسحب من تحت قدميّ. أرى النور يتلاشى، يغرب. أرى أنفاسي تتقطّع. تغيّر الحسّ عندي. أنا لا أرى، لا أسمع، لا أتبيّن. في شبه غيب. في شبه موت، مسكني صداع تامّ. أنا الآن عبد آخر. أرى الدنيا مختلفة. انظر في زوجتي فأراها هي الأخرى مختلفة. أنظر في البشر حولي فأراهم أشباحا. أنا في وحدة مفزعة. أنا في حالة اضطراب قصوى. كلّ شيء من حولي امّحت ملامحه. كلّ شيء من حولي تافه، لا كنه فيه ولا غاية. في الليل، لا أغمض عينا. على الطاولة، لا آكل شيئا. دوما، في زاويّة. يشدّني صداع دائم... إنّ الحياة لعبث، لمجون. لعبة سخيفة. ريح. سراب. فكيف المسك بالسراب؟ ما أقول هو كلام فارغ. أنا دوما أحبّ الحياة وأعشق ما في الحياة من عبث، من سخافة...

اللوحة الرابعة

لا يتكلّم الأطبّاء كما يتكلّم البشر. لغة الأطبّاء غير لغة الناس. أمّا وجوههم فهي دوما كالحة، من ظلف. لا ترى في ملامح الأطبّاء ما تراه في وجوه العامّة من فرح ومن طرح. يعلو وجوه الأطبّاء لوح من خشب. تنظر إليهم مليّا. تلتقط ما يأتون من كلمات. تتثبّت في سرائرهم ولكنك لن تفهم ما يقوله الأطبّاء من كلمات ولن تتبيّن ما تحمل وجوههم من علامة. بعد كلّ لقاء مع الطبيب أبقى وزوجتي نعيد الجمل وننظر في المفردات واحدة واحدة، نسعى إلى فحص ما أتاه الطبيب من حركة ومن مفردة... أحيانا كثيرة، لا نفهم المعنى وأبقى وزوجتي في اختلاف حول ما كان مع الطبيب من كلم.
أخيرا، دخلت وزوجتي مكتب الطبيب فوجدناه جالسا وأمامه أوراق وملفّات. "أهلا دكتور. هل جاءت النتائج؟" قال الطبيب "تفضّلا، اجلسا لنرى ما جاء في التحليل من نتائج". أمام الطبيب ورقة صفراء مطويّة. في الورقة نبأ مهمّ. جلل. انطلق الطبيب يعيد على مسامعنا ما كنّا أتينا من جراحة ومن صور. ها هو يصف الورم اللاصق في كيس البول. "هو ورم بنحو ثلاث سنتمترات، لاصق في الأسفل على الجانب الأيسر". يضيف الطبيب "في ما كنت عاينت يوم العمليّة لمّا نزعته وكيف كان لونه وأين ارتمت عروقه وأليافه، أدركت كنهه وتبيّنت ماهيّته ... على كلّ، ها هي التحاليل بين أيدينا ومع التحاليل تتّضح الرؤية. إن شئتم أقرأ لكم ما جاء في التحليل من خبر. يقول التقرير: "هناك مادّة وفيرة متكوّنة من عديد الألياف القماشيّة. كلّ الألياف هي سرطانيّة وقد انغمست الألياف السرطانيّة بل وأصبح لها عروق ضاربة في العضلات..." سكت الطبيب لحظة. لم افهم الكلام ولا ما جاءت به التحاليل من معلومة. في الحين، كالعادة، نظرت لزوجتي حتّى أرى ما يحمل وجهها من معنى. تغيّر وجه زوجتي. في وجه زوجتي لوعة وحرقة. أدركت عندها أن خطرا جللا يحدّق. أدركت أن ما قاله الطبيب فيه خطب عظيم. تصبّب العرق. أزيز قويّ ينفخ في أذنيّ. ارتعدت مفاصلي. انسدّ سمعي. أصبحت لا أرى، لا أسمع. كنت في ذهول، في صمت، مصدوما وهذه زوجتي في ارتباك جليّ تسأل عن سبل العلاج وما كان علينا أن نأتي. تسأل زوجتي الطبيب ان سوف نضع كيسا معوّضا خارج الجسم أم داخله وإن كان هناك تبعات وكيمياء. لا أفهم ما تقول زوجتي. دعيها تقول ما تشاء. أنا في غيب مطلق. أنا لا أفهم شيئا. ما هذه الحكاية؟ ما الذي يجري؟ هل هذا حلم مزعج؟ هل حقّا أنا الآن أمام الطبيب ومعي زوجتي ننظر في ما أتت به التحاليل من نبإ؟ هل أنا حيّ يرزق؟...
كان الطبيب يتكلّم ببطيء، يشرح، يقول كلاما لا أفقهه. كنت أسمع ولا أتبيّن. يقول الطبيب وهذا أدركته "أنت محظوظ نسبيّا. لو أتيت من قبل لنزعنا الورم بيسر أمّا وقد أتيت بعد أن تمكّن منك الورم فمن الضروريّ إجراء عمليّة جراحيّة ننزع فيها الورم وكيس البول وننتهي مع الخطر القائم. يجب أن تسرع وتنتهي من الكيس المصاب وتضع محلّه آخر يؤدّي نفس المهمّة. هي عمليّة ثقيلة ولكنّها يسيرة، ممكنة والمختصّون على دراية منها وبتقنياتها..." أضاف الطبيب "قبل العمليّة، يجب أن نتأكّد إن كان باقي الجسم سليما وأن الورم لم يمسس أعضاء أخرى. يجب أن تفعل سكانار حتّى نرى ونتأكّد".

اللوحة الخامسة

أنا عقلاني منذ أول الزمن. أعتقد راسخا أن لكلّ شيء سببا وأن هناك صلات بيّنة بين الأسباب والمسبّبات. لا أومن بالخرافة ولا بالخوارق ولا بالمعجزات. جاءت الخوارق والغيبيّات لتملأ فراغا، لمّا كان الانسان عقله في بداياته. في نظري، ما كانت الدنيا فوضى تمشي كما شاءت الأيّام ولا هي اعتباطيّة تسير في كلّ اتّجاه ولا هي صدف أو أقدار تأتي بلا سبب. أنا أومن بوجود الله، ما في ذلك شكّ، ولكن بعد خلقه الأرض والسماء وبعث بالحياة تسري، تنحّت يد السماء وما يحصل بين الناس هو من تبعات ما كان من صراع ومن تعاضد. حراك المجتمع هو المفسّر لما يحصل. كنت أرفض الغيب رفضا تامّا. كنت أومن ايمانا كاملا أن بما أوتي الانسان من عقل هو قادر على تحديد الفعل وعلى التحكّم في تبعاته... 
أين عقلي ليشرح لي ما أنا أحياه من لوعة، من عذاب؟ أين عقلي ليقول لي ماهيّة الأسباب وكيف هي التبعات؟ أنا في ضبابيّة مطلقة. أنا في اضطراب دائم. سكنني السؤال ولا ألقى للسؤال جوابا. لماذا ضربني السرطان؟ ماذا أتيت؟ ماذا فعلت حتّى يشدّني هذا المرض؟ لم السماء تريد أن تميتني؟ الموت قضاء وقدر ولكن للموت أسبابا وعلاّت. لا اعتباطيّة في الأرض... لماذا يريد السرطان حتفي؟ كم بقي لي في العمر من زمن؟ ماذا أتيت ليسكنني الورم؟ أنا أحبّ الحياة رغم ما في الحياة من سخافات، من تفاهة. سألت الطبيب عن سبب السرطان فقال "أسباب كثيرة ولكن لا يعلمها الأطبّاء تحديدا ". أنا لا أدخّن، لا أشرب خمرا، لا أفسق في الأرض، في عيشيّ دوما اعتدال. قمن أين جاء السرطان؟
لا أحد في الأرض قادر على شرح ما أنا فيه من عذاب. لا أحد في الأرض قادر على إدراك ما أنا فيه من لوعة، من حيرة، من إحباط. كلّ الناس من حولي ينظرون إليّ في عطف ثم يعودون إلى الحياة. كلّ في شأنه، يمشي إلى غاياته. البنيّة دوما في المطبخ، تطبخ. زوجتي دوما بين الدار والسوق تشتري. إخوتي وصحبي كلّ في داره، في شأنه يسعى، يجتهد ولا يلتفت... لا وجود في الأرض بشر يحمل معك الأعباء. لا أحد إلى جانبك تلقى لمّا تصاب بالسرطان. في الطرح وفي الفرح، كلّ يحمل أوزاره، كلّ يحياه منفردا ... في بيتي، كنت في غربة رغم ما تأتيه زوجتي من معاضدة. في الليل، في النهار، لا أعرف نوما ولا سكينة. انزويت لوحدي. أنظر فلا أرى غير الورم الخبيث منذرا، ماسكا. لجأت إلى الصمت. لا ينفع الكلام. لجأت إلى أعماق نفسي، أنظر في ما تبقّى من الأيّام. كذلك يولد الانسان وحيدا ويموت وحيدا...
أنا الوهن. أنا الضعف. أنا عقل معطّب. لا شيء في الدنيا ألقاه مستقيما. لا ألقى في الأرض لي مناصرا، معاضدا. يحمل معي ثقل الوزر. لا أحد في الدنيا يدرك ما أنت فيه من يأس، يمدّ لك العون، ينشلك ممّا أنت فيه من عسر أزرق. لا أحد من الخلق حريص، يساعدني على تجاوز اللوعة. من حولي، كلّ في مكانه يسعى، يجري كما كان يجري منذ أوّل الزمن. كلّ لحياته يتدبّر. لم يتوقّف العالم. امّا الأخلّة والأهل والبنون والزوجة ورغم ما قد يحملون من عطف ومناصرة، تراهم في شؤونهم، يواجهون مشاغلهم. أنا اليوم وحيد. لا أرى في الأرض بشرا. لا أحد في الأرض يحمل معي ما أحمل من مرض، من توجّع. اقفرّت عندي الأرض. لم يبق لجانبي غير الواحد القهّار. هو من بعثني في الأرض حيّا. هو وحده الناظر اليّ بعين الرحمة. هو وحده المدرك لما أنا فيه من عسر ويأس. هو وحده القادر على شدّ ازري، على التفريج عن كربي.
ها أنا ألتجي إلى السماء وقد اقفرّت الأرض. أرتّل الآيات في الليل وفي النهار. أستغفر الله كثيرا، في الصباح، في الظهيرة ومع طلوع الفجر. ها أنا أتذكّر ما كان لي من آيات حفظتها صغيرا لطلب العون من السماء. ها أنا أعيد مرارا تلك الآية الكريمة التي حفّظني ايّاها أخي الأكبر لمّا كنت صبيّا: "لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليكم ما عندتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم فان تولّوا فقل حسبي الله لا اله الا هو عليه توكّلت وهو ربّ العرش العظيم". عند كلّ امتحان، عند كل عسر، عند كلّ شدّة، كنت أعيد مئات المرّات هذه الآيات، مؤمنا أن في إعادتها نصرة من الله العزيز... انتهى النوم. مئات المرّات، آلاف المرّات أعيد "يا ربّي عفوك وسترك ورضاك". أنا لا أصلّي ولكن يرشح قلبي إيمانا وغفرانا. فتحت المصحف. أقرأ سورة الحديد وسورة الجمعة وغيرهما من السور والآيات. في كلّ سورة ألقى بيانا. في كلّ آية ألقى وجه ربّ العزّة ذو الجلال... أنا أتغيّر. ما كان الدين أفيونا. الدين عندي مناصر. ها هو يشدّ بيدي. أنا في وهن، في تفرّد وفي القرآن ألقى طمأنينة... لمّا يعجز العقل على الفهم تمشي الى غير العقل لتلقى جوابا وسكينة. للعقل حدود أدركتها. في الإنسان عجز أصليّ وحتّى يطمئنّ قلبه يلزمه ايمان بالغيب والتحام مع الوجود.

اللوحة السادسة

"متى نذهب إلى الصحّة ونجري صورة السكانار" قالت زوجتي. قلت "اليوم صباحا. لم الترقّب؟" قصدت المصحّة وكلّي ارتباك. يجب أن ننتهي من هذه المحنة، أن نرى ما في الصور من خبايا. ثمّ، لم الترّيّث وكلّ قضاء مقدّر، لا مردّ له؟ ها أنا وزوجتي أمام الطبيبة المصوّرة. كنت أرتجف. في وجهي صفرة وفي رأسي أزيز يمنع كلّ سمع، كلّ تبيّن. ماذا سوف ألقى في هذا الجسم المهزوم؟ أنا في خوف شديد. تشدّ رأسي حرارة، تمشي في كلّ مفاصلي. هل أنا في طريق الفناء؟ هل أنا أنتهي مع الحياة؟ أنا أموت عرقا، عرقا. لا ينفع الذعر الذي أحيا. يجب أن أواجه. يجب أن أذكر الله كثيرا. أن استغفره، أن أطلب عفوه ونصرته...
الطبيب المصوّرة امرأة بهيّة. رقيقة، لها وجه ملائكيّ. دوما تبتسم. لكن هي طبيبة ومثلها مثل الأطبّاء لا ترى في ملامحها إشارة أو خبرا. وجهها من لوح. أحدّق في عينيها. أنظر في ملامحها مرّة ومرّة دون أن أتبيّن ما قد تحمل سرائرها من نبإ. "هل وجدت في صوري أشياء؟" الطبيبة دوما في صمت. سألتها وقد ضقت ذرعا وطال انتظاري فقالت "بعد أن أنظر مليّا في الصور سوف أخبرك ما جاء في الصور... عد اليّ بعد ساعة". ساعة أخرى طويلة، مريرة، في قاعة الانتظار، أترقّب وزوجتي الحكم النهائيّ. الساعة هي الدهر. جلست على كرسيّ ورأسي بين يديّ. عدت إلى ما مضى من الأيّام ورأيت وجه أمّي ووجه الأهل والأخلّة، الموتى منهم والأحياء. كلّ الناس ينظرون إليّ وفي أعينهم حيرة وسؤال. أنا تعبان. أنا مرهق...
جاءت الطبيبة وهي تبتسم، قائلة: "نظرت في الصور وفي الصور لم ألق شيئا يذكر. يمكنك اجراء العمليّة". فرحت بالخبر كما لم افرح منذ زمن. زوجتي هي الأخرى تحمد الله وتشكره. ارتميت في أحضان زوجتي، أقبّلها يمنة ويسرة. خرجت أجري مزهوّا، عائدا الى البيت لأخبر البنيّة. أنا فرح بهذا النبإ، بهذا البصيص من الأمل. إنّ الله لكريم بعباده، رحيم. ها هو الله يستجيب إإلى دعواتي.
ها أنا وزوجتي والبنيّة في غبطة نخبر الأهل والأبناء عمّا جاء به السكانار. الآن، من الممكن إجراء العمليّة وتعويض الكيس البولي بآخر. الآن تفتح في وجهي آفاق جديدة وأراني بعد في صحّة وعافيّة. هذه صفحة سوداء تطوى وهذه أخرى ناصعة، بهيّة تفتح أمام عينيّ. في ظرف ساعة، ها هو الأمل يغمرني، ها هي الحياة تعود إليّ. ما أحلى الحياة الدنيا رغم ما في الحياة الدنيا من مرض... 
ثمّ تأتي العشيّة فيعود الصداع إليّ، قويّا. من جديد، تسكنني حيرة ثقيلة، متجدّدة. يجب إجراء عمليّة جراحيّة. متى وكيف سأجري العمليّة؟ ثم هل في العمليّة من خطر؟ هل هي مضمونة العواقب؟ عدت إلى ربّي أستعطف، أطلب معاضدة. أستغفره كثيرا. أعيد ما حفظت من آيات. لم أنم ليلتها. لم يهدأ لي بال. يقول الطبيب "إن العمليّة ثقيلة ويلزمها نحو ستّ ساعات. لكنّها واضحة المسالك". ستّ ساعات في بيت العمليّة. هذا نهار كامل. هذا كثير عليّ وما كنت أجريت في ما مضى غير واحدة بسيطة بأقلّ من ساعة. عاودني الشكّ. ملكتني الريبة. هذه عمليّة ثقيلة وحتّى أعلم وأطمئنّ يجب أن أسأل من حولي عن الأطبّاء أقدرهم. أن اتبيّن تبعاتها وإن كان من الناس من أتاها ليعلمني...
سألت الناس من حولي عن العمليّة وعن أمهر المختصّين. كالعادة يمشي بك الناس في كلّ واد. كلّ يدفعك إلى حيث يعلم ويعتقد أنّ ما يعلم هو الحقّ وحده. كالعادة، لا اتفاق بين الناس حول الطبيب وحول سبل تعويض الكيس بآخر... واحد من أصحابي وكنت أثق به قال لي وفي صوته حزم وأمر "دعك من البحث والسؤال ولا تضع الوقت في ما لا ينفع. اذهب دون تردّد إلى مستشفى سهلول بسوسة واتصل بفلان فهو طبيب ممتاز قد ذاع سيته..." في الغد كنت بين يديّ الطبيب أنظر وإيّاه في العمليّة وفي ما كان لها من هوامش ومن تبعات. الطبيب هذا رجل تجاوز الستّين. في عينيه نور وفي كلامه لطف وهدوء. أنا أثق في هذا الطبيب وقلت في نفسي ولزوجتي "هذا هو صاحبنا. هذا هو سيّد الموقف".

اللوحة السابعة

بعد بضعة أيّام قليلة سوف أجري العمليّة في مصحّة خاصّة بسوسة. أخبرت بهذا أقرب الناس... ليتني لم أفعل. لكن، كيف لي أن لا أعلم أخواتي وإخوتي وبعض المقرّبين من صحبي؟ هؤلاء هم أقرب الناس إليّ. من الضروريّ أن أعلم سليم وعمار وبوك عليّ. لا داعي إلى اخفاء الخبر وما سوف تكتبه السماء سوف تراه الأعين لا محالة... أعلمت أختي الوسطى بالنبا وأختي الوسطى هذه امرأة تحبّني. لكنّ أختي الوسطى هذه كانت وكالة أنباء. هي أقوى وأنعج من الشبكة، من التلفزة. لمّا تنطلق في نشر خبر، يغزو الخبر، في لحظة، الأرجاء جميعا. أعلمت أختي الوسطى بالخبر وها هي تنقله كالبرق عبر الجهات، في الداخل وفي الخارج. تحبّ أختي هذه الصخب وتلقى لذّة لمّا تراها تتكلّم مع هذا والآخر وذاك الذي غادرنا منذ زمن. تحبّ أختي الهرج بل أعتقد أنّها تبذل الجهد، تسعى إليه بكلّ السبل. لحظات بعد انطلاق عمليّة الاتّصال، ها هم الناس يهبّون على بيتي للزيارة. الكلّ يهاتف، يسأل عن حالي وأحوالي. في كلّ مرّة تراني أعيد على مسامع السائلين ما كان مع البول الدموي ومع الورم الخبيث ومع ما يجب اليوم من عمليّة... شاح ريقي وأنا أجيب على سؤال هذا واستسفار الآخر. أنا تعبت من هذا الكلام الذي يتكرّر، صباحا، مساءا وفي الليل. ضاقت أنفاسي وهذه الأسئلة تعاد كلّ مرّة على نفس الشاكلة وتأتي أجوبتي على نفس الوتيرة. ما هذا هو الأهمّ عندي وما كانت هذه أبدا أولويّتي. أنا اليوم في حيرة متّصلة، في خوف، أحسب الأيّام وأتخيّل ما قد سوف يحصل مع قادم الأيّام من شأن. هذا عذاب آخر ينضاف لما أنا فيه من عذاب. يجب أن أغلق هاتفي وأرتاح من السؤال ومن الجواب. أختي الوسطى تحبّني ولا شكّ في ذلك. لكنّ حبّها فيّاض، فيه انفلات جارف. هي لا تعرف الاعتدال أبدا وفي كلامها دوما مبالغة... في آخر العشيّة، تسألني أختي الوسطى من جاء لزيارتي وإن هاتفني فلان وفلان... اقول لها هذا غير مهمّ ولن تنفع الزيارات ولا الهواتف. تقول أختي وفي صوتها حدّة: " لا، لا، أنت لست بقط. أنت رجل معتبر، غال. كلّ من نعرف يجب أن يسأل عنك ويأتي إلى الزيارة"...
أمّا زوجتي وكانت في بعض شبه بأختي الوسطى فكانت تلقى شغفا بالردّ على الناس وإعادة أطوار الحكاية وما كان حصل منذ كنّا في الطائرة. كانت تعيد "الأغنيّة" بنفس الوتيرة، بنفس الكلمات. عشرون مرّة في اليوم أو أكثر وهي تحكي كيف كان البول وما كنّا اعتقدنا من سبب تافه ثم ما كان لنا مع الصور والسكانار وما كان فيهما من ورم جليّ ثم تمرّ إلى العمليّة وكيف أظهرت العمليّة خبث الورم إلى غير ذلك من التفاصيل والجزئيّات. تعرف زوجتي صناعة القصّة وتحذق فنّ التشويق وتراها في كلّ مرّة تبدع في توضيح المعطيات، في العود إلى ما فات. لا تقلق زوجتي أبدا من هذه الاتصالات بل أراها تلقى لذّة بما كانت تحكي لهذا وللآخر من حكايات. أمّا أنا فكنت في ضجر وقد صدّع رأسي لوك الكلام وهو يتكرّر اليوم طوله...
قبل العمليّة وبعدها، كانت زوجتي دوما لجانبي. تمدّ لي العون وتقول لي كلاما يشدّ العزم ويدفع بالهمم. كانت دوما لجانبي، ليلا، نهارا. تسرع دون تلكئ في تلبيّة دعواتي ودعوات المريض متعدّدة، لا تنتهي... ماتت أمّي منذ زمن وبقيت زوجتي في الدنيا هي المعاضد، هي المناصر. من لي غير زوجتي في هذا العمر؟ من لي غير زوجتي في هذه الظرف العصيب؟ إذا كانت الجنّة تحت أقدام الأمّهات، تبقى الحياة تحت أقدام الزوجات.

اللوحة الثامنة

كنت في غرفة المصحّة، أترقّب ومن حولي، اخوتي وزوجتي وكانوا في كلام لا ينتهي. كانوا في بعض صخب، لمّا فجأة جاءني ممرّضان نحّيا ثيابي وألبساني أخرى. أخذني الممرّضان فوق عربة مجرورة إلى بيت العمليّة. أنظر هائما فأرى الأسقف والأضواء تجري. من حولي بشر. كنت في شبه غيبوبة. حان الجدّ وجاءت ساعة العمليّة. استغفرت الله كثيرا. دعوت ربّ العزّة أن يشدّ ازري فأوفّق وتنجح العمليّة. أدخلوني غرفة باردة لونها أخضر. في السقف عديد الأضواء. فوق رأسي انتصبت ثلاث مصابيح بلّوزيّة، كبيرة. في الغرفة، عديد الأشخاص. كلّ يرتدي لونا، كلّ يتكلّم مع صحبه. ثم جاء المبنّج ودقّ في ظهري حقنة أولى وفي يدي أدخل حقنة ثانيّة. كنت أسمع وأرى ما يجري لمّا فجأة، انتقلت من عالم الأحياء الى عالم آخر. أنا جثّة. لا حسّ فيّ ولا شعور... انتهت العمليّة وحوّلوني إلى غرفة الانعاش. قضيت الليلة كلّها تحت المراقبة. أحيانا أفتح عينيّ فأرى زوجتي ووجه رفيقة ورؤوس عباد لا أعرفهم ثمّ أعود لأنام من جديد.
انتهت العمليّة وحمدت الله كثيرا أن عدت بين أهلي وذويّ، حيّا... ها أنا في غرفتي بالمصحّة وهذا وعي خفيف يدبّ فيّ، من حين لآخر. أفيق من نومي، أفتح عينيّ فأرى وأتبيّن. هذه زوجتي تبتسم، تمسح جبيني، تشدّ يميني. هذا الممرّض يأخذ الحرارة وما كان من سكّر. في أنفي خيط بلاستيكي بغيظ يمشي إلى المعدة. في جانبيّن أدخلت خمسة أنابيب تفرز بولا وموادّ أخرى. فوق السرير، أنا عاجز تماما على الحركة. قضيت في المصحّة ستّة أيّام كانت كلّها عذابا وتوّجعا. أقضي الليل والنهار مفتوح العينين. أغمض عيني فيشدّني وجع فأنهض. أترقّب الفجر وأسمع الآذان. ثم يأتي الصباح وها أنا أترقّب العشيّة وظلام الليل يغطّي...
قضيت ستّة أيّام من العجز، من الألم، من الوجع المتّصل. وبينما كنت أحسب الدقائق تتوالى ثقيلة، مريرة، تذكّرت أيّام كنت في صحّة وعافيّة. تمنّيت لو عاد ذاك الزمن البهيّ لبضع دقائق. ساعة وحيدة. ما كنت أكترث أيّامها بما كنت أنعم به من عافيّة وصحّة. هذا طبيعيّ وكذلك عشت في غفوة عقودا من الزمن. في ذاك الزمن، كنت أنام الليل طوله وفي النهار أيضا. آكل ما شئت من الأكل. أمشي في الدنيا مزهوّا. أضحك. أحيا ولا أعبأ. لو كنت أعلم لازداد حبّي بالحياة، لعضضت على الأيّام ملء فمي. كم أضعت من عمري في قضايا تافهة. كم أنهكت من جهد في الحكايات الفارغة. كم من سنوات قضيتها أجري وراء الترّهات. كم آتيت من تكالب، من تهافت لا ينفع. كان الأولى أن أحيا كلّ لحظة. كان الأولى أن أشكر الله على ما كنت فيه من نعمة... الحياة قصيرة. الحياة هي أن تنعم في كلّ لحظة، أن تحبّ وتضحك وتمرح في كلّ يوم، في كلّ لحظة... كنت قرأت مثل هذا الكلام من قبل دون أن أتبيّنه. ها أنا اليوم أعيده".